الخميس، 29 سبتمبر 2011

الإيجاز في السحر ج1 - د. ناصر السخني


 ( تعريفه, أنواعه, تأثيره, أركانه, أعراضهُ, علاجهُ,والوقاية منه )

مقدمة:

     الحمدُ للهِ خالقِ الأكوان، العالمِ بما سيكونُ وما يكونُ وما قد كان, والصلاة والسلام على عبدهِ ورسولهِ محمدٍ الذي أرسله للإنسِ والجان, وبعد؛


 


   فلا ينكر السحر إلا مغالطٌ ليس بعاقلٌ, كما أنَّهُ لا يعمل بالسحر إلا كافرٌ أو جاهل, وأدلة الكتاب والسنة تكاثرت ردّاً على كل قائل, وأوضحها: { وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } سورة البقرة / 102, وغير ذلك من الآيات والأحاديث التي سترد في السياق في مكان الاستدلال.

   وهذا جهدٌ متواضع وإيجاز وتبسيط عن السحر من تعريفهِ حتى الوقاية منه, مما جاء بالكتاب المبين وسنة خير المرسلين, ومن التجربة في هذا المضمار الذي فيه الغث والسمين.وعسى الله أن يجعل هذا العمل صالحاً، ولوجهه خالصاً، ومفيداً لي ولغيري وأن يلهمنا الحقَّ والصواب.

أولاً :تعريف السحر لغةً واصطلاحاً

السحر في اللغة : تتلخص المعاني اللغوية للسحر أنهُ : كلّ شيءٍ خَفِيَ سببه ولطف ودق, أو صرف الشيء عن حقيقته إلى غيرهِ, وقد يكون الصرف للعين فلا ترى الشيء على حقيقته الذي هو عليها في الواقع، وقد يكون الصرف للقلب من الحب إلى الكره، ومن الكره إلى الحب، ومن البغض إلى الحب، وهكذا....  ( للاستزادة يراجع لسان العرب لابن منظور – مادة سحر– 4 / 348 ).
    ويقول راجي الأسمر ( السحر,حقيقته, أنواعه,الوقاية منه – ص 7 ):" وتعودُ معاني السحر اللغوية إلى الخفاء واللَّطافة ، وإلى الخداع والتمويه ، وإلى التلهية ، والتعليل وإلى الصرف والاستمالة ، ومن هذه المعاني اللغوية عرف السحر في الاصطلاح".  


السحر اصطلاحاً : اختلفت عبارات العلماء وتباينت في تعريف السحر شرعاً, وأختار لكم بعض أقوالهم – التي توضح الرأي فيه - باختصار  :

1)              قال الإمام فخر الدين الرازي ( المصباح المنير - ص 268 ) : " السحر في عرف الشرع مُختص بكلِّ أمرٍ يخفى سببه, ويتخيل على غير حقيقته في الواقع ويجري مجرى التمويه والخداع ".

2)              قال الإمام أبو بكر الجصَّاص ( أحكام القرآن - 1/51 ) : " السحر كل أمرٍ خَفِيَ سببه, وتُخيّل على غير حقيقته, وجرى مجرى التمويه والخداع ".

3)              قال الإمام أبو محمد عبد الله ابن قدامة ( المغني- 10/104 ) : " هو عقدٌ ورقى وكلامٌ يتكلم به الساحر أو يكتبه أو يعمل شيئاً فيؤثر في بدن المسحور أو قلبهِ أو عقلهِ من غير مباشرة له، وله حقيقة فمنه ما يقتل ومنه ما يمرض وما يأخذ الرجل عن أهله فيمنعه وطأها، ومن السحر  ما يفرق بين الزوج وزوجه ومنه ما يحبب بين اثنين ".

4)               قال الإمام الحافظ ابن حجر ( إرشاد الساري – 8/401 ) : " هو صرف الشيء عن وجهه ، قال القسطلاني : أمر خارق للعادة ، صادر عن نفس شريرة لا تتعذر معارضته ، وهو بتأثيره نوع من الأمراض ، قال القرطبي : الحق أن لبعض أصناف السحر تأثيراً في القلوب كالحب والبغض وإلقاء الخير والشر ، وفي الأبدان بالألم والسقم ".

5)              قال الإمام ابن عربي ( الفواكه الدواني – 2/200 ) : " أنه كلام يعظم به غير الله وتنسب إليه المقادير والكائنات ".

6)             قال القرطبي ( تفسير القرطبي 2 /44 ) : " ذهب أهل السنة إلى أن السحر ثابت وله حقيقة ", وقال أيضاً : " السحر عند المعتزلة خدع لا أصل له, وعند الشافعي وسوسة وأمراض, وعندنا أنه حق وله حقيقة يخلق الله عندها ما يشاء ".

7)              قال النووي ( فتح الباري 10 /222 ): " والصحيح أن السحر ثابت وله حقيقة وبه قطع الجمهور وعليه عامة العلماء ".

8)             قال الشيخ محمد الأمين المختار الشنقيطي ( أضواء البيان 4/437 ) : " اعلم أن السحر في الاصطلاح لا يمكن حده بحد جامع مانع ، لكثرة الأنواع المختلفة الداخلة تحته ، ولا يتحقق قدر مشترك بينها يكون جامعاً لها مانعاً لغيرها ، ومن هنا اختلفت عبارات العلماء في حدِّه اختلافاً متبايناً ".

وهنالك الكثير من أقوال العلماء ولكن ما سلف يلخِّصها, والنتيجة الظاهرة من أقوالهم هي أنهم انقسموا إلى مذهبين فيه:

أ‌)      من قال أنَّ السحر خيالٌ وتخيّل ورؤية للأشياء على غير حقيقتها, ولا حقيقة لهُ في الواقع فهو خداعٌ وتمويه, كما ذهب الفخر الرازي والجصّاص, وغيرهم ( وهو قول المعتزلة ). وقد استدلوا بقولهِ تعالى : { فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى } (66) سورة طـه, وقولهِ تعالى : { فَلَمَّا أَلْقَوْاْ سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ } (116) سورة الأعراف. واستدلوا بالمنطق : لو أنَّ السحر حقيقة لاستطاع السحرة قلب الحقائق وتغييرها, وقلبوا الحصى إلى ذهب, وكانوا ملوك العالم والأغنياء فيه.

ب‌)           من قال أنَّ السحر ليس تخيّلاً, ولكنهُ حقيقة وله واقع محسوس مشهود ملموس كما ذهب ابن قدامة والقرطبي والنووي, وغيرهم ( وهو مذهب جمهور السلف ). وقد استدلوا بقولهِ تعالى : {وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} (102) سورة البقرة, فإن الله أخبر فيها عن أنَّ السحر كائن, وأنَّ الساحر كافر, وأنه مما يُعلم ويتعلم وهذه الصفات لا تكون إلا لماله حقيقة، وأنَّ التفريق بين الزوج وزوجهِ حقيقة وليس خيالاً, وأنَّ السحرة لا يملكون ضراً ولا نفعاً إلا بإذن الله. (انظر تفسير القرطبي 2/46، وشرح النووي على صحيح مسلم 14/ 74 وأضواء البيان 4/437 ) واستدلوا أيضاً بالحديث الصحيح الذي فيه سحر النبي محمد – صلى الله عليه وسلم – الذي سحره به اليهودي لبيد بن الأعصم, ولو لم يكن لهُ حقيقة وأثر ما أنزل الله سورتي الفلق والناس لإبطال أثره. واستدلوا بالواقع: بالسحر الذي يسبب المرض كنزيف النساء وما إلى ذلك.

الخلاصة: الصحيح أنَّ السحر يُقْسمُ إلى أقسامٍ رئيسةٍ:

1)             سحر تخيّل : يستطيع الساحر بهِ أن يجعل العين ترى الشيء على غير حقيقتهِ, كسحر سحرةِ فرعون, وكما سبق برأي أصحاب المذهب الأول.

2)             سحر حقيقي : يستطيع الساحر بهِ أن يضرَّ ويؤذي العباد ضرراً ملموساً, كسحر التفريق والمرض وما إلى ذلك - مما سيأتي لاحقاً شرحه - وكما سبق برأي أصحاب المذهب الثاني.

3)             سحر السرعة وخفَّةِ الحركةِ والخدع : كالذي نراه في السيرك والتلفاز, وهو وإن لم يكن سحراً بالمعنى المقصود إلا أنه شاع إطلاق كلمة السحر عليه لأنه خفيٌ ومجهول ولا يُلمس الناظرُ سِرَهُ .

أسأل الله أن أكون وفقت بهذا الإيجاز والتوضيح السريع, وإلى لقاءٍ في الجزء الثاني : ( أقسام السحر وأنواعه وأركانه ).


والله تعالى أعلم.
والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه, والحمد لله رب العالمين.
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ







هناك تعليق واحد:

  1. وين الجزء الثاني يا دكتور
    طولنا واحنا نستنا

    ردحذف